فصل: ما تصح فيه الحوالة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (نسخة منقحة)



.بَابُ كَفَالَةِ الرَّجُلَيْنِ وَالْعَبْدَيْنِ:

لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ كَفَالَةِ الْوَاحِدِ ذَكَرَ كَفَالَةَ الِاثْنَيْنِ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْوَاحِدِ طَبْعًا فَأُخِّرَ وَضْعًا.
(دَيْنٌ عَلَيْهِمَا) أَيْ عَلَى الِاثْنَيْنِ لِآخَرَ بِأَنْ اشْتَرَيَا مِنْهُ ثَوْبًا، وَ (كَفَلَ كُلُّ) وَاحِدٍ مِنْ الِاثْنَيْنِ (عَنْ صَاحِبِهِ) جَازَ الْعَقْدُ لِعَدَمِ الْمَانِعِ، إذْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ أَصِيلًا وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَفِيلًا (فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا) أَيْ فَمَا أَدَّى أَحَدُهُمَا مِنْ الدَّيْنِ نِصْفَهُ (لَا يَرْجِعُ بِهِ) أَيْ بِمَا أَدَّى (عَلَى الْآخَرِ) أَيْ عَلَى شَرِيكِهِ، وَإِنْ عَيَّنَ عَنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ، لِأَنَّ وُقُوعَ الْأَدَاءِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ أَصَالَةً أَوْلَى مِنْ وُقُوعِهِ كَفَالَةً؛ إذْ الْأَوَّلُ دَيْنٌ مَعَ الْمُطَالَبَةِ، وَالثَّانِي مُطَالَبَةٌ فَقَطْ وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ فِي النِّصْفِ صَاحِبُهُ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَجْعَلَ الْمُؤَدَّى عَنْهُ لِأَنَّ الْمُؤَدِّيَ نَائِبُهُ، وَأَدَاءُ نَائِبِهِ كَأَدَائِهِ فَيُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ (إلَّا إذَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ) فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا عَلَيْهِ كَفَالَةً فَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ إنْ كَفَلَ بِأَمْرِهِ.
(وَلَوْ كَفَلَا) أَيْ الِاثْنَانِ (بِمَالٍ عَنْ رَجُلٍ) بِالتَّعَاقُبِ (وَكَفَلَ كُلُّ) وَاحِدٍ (مِنْهُمَا بِهِ) أَيْ بِجَمِيعِ الْمَالِ (عَنْ صَاحِبِهِ) يَعْنِي إذَا كَانَ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ مَثَلًا فَيَكْفُلُ عَنْهُ اثْنَانِ، كُلٌّ مِنْهُمَا بِجَمِيعِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ، ثُمَّ كَفَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِمَا لَزِمَهُ بِالْكَفَالَةِ إذْ الْكَفَالَةُ بِالْكَفِيلِ جَائِزَةٌ (فَمَا أَدَّاهُ) كُلٌّ مِنْهُمَا (رَجَعَ بِنِصْفِهِ عَلَى شَرِيكِهِ) قَلِيلًا كَانَ الْمُؤَدَّى أَوْ كَثِيرًا، إذْ الْكُلُّ كَفَالَةٌ فَلَا رُجْحَانَ لِكُلٍّ مِنْ الْكَفَالَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى بِالْمُطَالَبَةِ، ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْأَصِيلِ (أَوْ) رَجَعَ هُوَ (بِكُلِّهِ) أَيْ بِكُلِّ مَا أَدَّاهُ (عَلَى الْأَصِيلِ) ابْتِدَاءً (لَوْ) كَفَلَ (بِأَمْرِهِ) إذَا كَفَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْجَمِيعِ فَلَا يُؤْتَى إلَى الدَّوْرِ هَذَا إذَا كَفَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِالْجَمِيعِ، وَأَمَّا إذَا كَفَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ، ثُمَّ كَفَلَ كُلٌّ عَنْ صَاحِبِهِ فَهِيَ كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فِي الصَّحِيحِ، وَكَذَا لَوْ كَفَلَا عَلَى الْأَصِيلِ بِالْجَمِيعِ، ثُمَّ كَفَلَ عَنْ صَاحِبِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ فَلَا يَكُونُ كَفِيلًا عَنْ الْأَصِيلِ بِالْجَمِيعِ، أَوْ كَفَلَ كُلٌّ بِالْجَمِيعِ مُتَعَاقِبًا، ثُمَّ كَفَلَ كُلٌّ عَنْ صَاحِبِهِ بِالنِّصْفِ لِمُغَايَرَةِ جِهَةِ الضَّمَانِ كَمَا فِي الدُّرَرِ وَغَيْرِهِ.
(وَلَوْ أَبْرَأَ الطَّالِبُ أَحَدَهُمَا) أَيْ أَحَدَ الِاثْنَيْنِ (فَلَهُ) أَيْ لِلطَّالِبِ (أَخْذُ) الْكَفِيلِ (الْآخَرِ بِكُلِّهِ) أَيْ بِكُلِّ الْمَالِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَفِيلٌ بِالْكُلِّ عَنْ الْأَصِيلِ فَيَأْخُذُهُ بِهِ.
(وَلَوْ فُسِخَتْ الْمُفَاوَضَةُ) أَيْ لَوْ اشْتَرَى أَحَدُ الْمُفَاوِضَيْنِ شَيْئًا، ثُمَّ فُسِخَتْ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا (فَلِرَبِّ الدَّيْنِ أَخْذُ مَنْ شَاءَ مِنْ شَرِيكَيْهَا) أَيْ شَرِيكَيْ الْمُفَاوَضَةِ (بِكُلِّ دَيْنِهِ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَثْبُتُ بِعَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ فَلَا تَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ.
قَيَّدَ بِالْمُفَاوَضَةِ لِأَنَّ شَرِيكَ الْعِنَانِ لَا يُؤَاخَذُ عَنْ شَرِيكِهِ لِأَنَّهَا لَا تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ بَلْ الْوَكَالَةَ كَمَا مَرَّ فِي الشَّرِكَةِ (وَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا لَا يَرْجِعُ بِهِ) أَيْ بِمَا أَدَّى (عَلَى الْآخَرِ مَا لَمْ يَزِدْ بِهِ عَلَى النِّصْفِ) لِمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا.
(وَإِذَا كُوتِبَ الْعَبْدَانِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ) بِأَنْ قَالَ الْمَوْلَى: كَاتَبْتُكُمَا عَلَى أَلْفٍ وَقَبِلَا (وَكَفَلَ كُلٌّ) مِنْ الْعَبْدَيْنِ (عَنْ صَاحِبِهِ صَحَّ) الْعَقْدُ (وَرَجَعَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِنِصْفِ مَا أَدَّى) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ لِأَنَّ فِيهِ كَفَالَةَ الْمُكَاتَبِ وَالْكَفَالَةَ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ بَاطِلٌ وَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ أَوْلَى فَصَارَ كَمَا إذَا تَعَاقَبَتْ كِتَابَتُهُمَا فَإِنَّهُ بَاطِلٌ وَلِهَذَا قَالَ بِعَقْدٍ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ يَجِبُ تَصْحِيحُهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَقَدْ أَمْكَنَ هُنَا بِأَنْ يُجْعَلَ كُلُّ الْمَالِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَحَقِّ نَفْسِهِ، وَعِتْقُ الْآخَرِ مُعَلَّقٌ بِأَدَائِهِ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ كَاتَبْتُكُمَا بِأَلْفٍ: إنْ أَدَّيْتُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَنْتُمَا حُرَّانِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا: إنْ أَدَّيْتَ الْأَلْفَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَيَكُونُ عِتْقُ كُلِّ وَاحِدٍ مُعَلَّقًا بِأَدَاءِ الْأَلْفِ، وَلَا يَحْصُلُ عِتْقُهُ بِأَدَاءِ نِصْفِهِ؛ إذْ الشَّرْطُ يُقَابِلُ الْمَشْرُوطَ جُمْلَةً، وَلَا يُقَابِلُهُ أَجْزَاءً فَيُطَالِبُ الْمَوْلَى كُلًّا مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الْمَالِ بِحُكْمِ الْأَصَالَةِ لَا الْكَفَالَةِ، فَأَيُّهُمَا أَدَّى عَتَقَ وَعَتَقَ الْآخَرُ تَبَعًا لَهُ، كَمَا فِي وَلَدِ الْمُكَاتَبِ فَمَا أَدَّى أَحَدُهُمَا رَجَعَ عَلَى الْآخَرِ لِاسْتِوَائِهِمَا، وَلَوْ رَجَعَ بِالْكُلِّ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ انْتَفَى الْمُسَاوَاةُ كَمَا فِي الدُّرَرِ.
قَيَّدَ بِقَوْلِهِ وَكَفَلَ لِأَنَّهُ لَوْ كَاتَبَهُمَا مَعًا وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّتُهُ وَيَعْتِقُ بِأَدَاءِ حِصَّتِهِ فَلَوْ زَادَ عَلَى أَنَّهُمَا إنْ ادَّعَيَا عِتْقًا وَإِنْ عَجَزَ أَرَادَ فِي الرِّقِّ وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَفَالَةَ فَعِنْدَنَا لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَصِلْ جَمِيعُ الْمَالِ إلَى الْمَوْلَى خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ قَالَ: يَعْتِقُ بِأَدَاءِ حِصَّتِهِ.
(وَإِنْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ أَحَدَهُمَا) أَيْ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ الْمُكَاتَبَيْنِ فِيمَا إذَا كَاتَبَهُمَا، وَشَرَطَ كَفَالَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ (قَبْلَ الْأَدَاءِ صَحَّ) عِتْقُهُ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ وَبَرِئَ عَنْ النِّصْفِ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْتِزَامِ الْمَالِ إلَّا لِيَكُونَ الْمَالُ وَسِيلَةً إلَى الْعِتْقِ، وَمَا بَقِيَ وَسِيلَةٌ فَيَسْقُطُ، وَيَبْقَى النِّصْفُ عَلَى الْآخَرِ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الْحَقِيقَةِ مُقَابَلٌ بِرَقَبَتَيْهِمَا، وَإِنَّمَا جُعِلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا احْتِيَالًا لِتَصْحِيحِ الضَّمَانِ، وَإِذَا جَاءَ الْعِتْقُ اُسْتُغْنِيَ عَنْ الِاحْتِيَالِ فَاعْتُبِرَ مُقَابَلًا بِرَقَبَتَيْهِمَا فَلِهَذَا يَنْتَصِفُ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ (وَلَهُ) أَيْ لِلْمَوْلَى (أَنْ يَأْخُذَ حِصَّةَ الْآخَرِ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْآخَرِ (أَصَالَةً أَوْ مِنْ الْمُعْتَقِ كَفَالَةً، وَيَرْجِعُ الْمُعْتَقُ فَقَطْ بِمَا أَدَّى عَلَى صَاحِبِهِ) أَيْ إنْ أَخَذَ الْمَوْلَى حِصَّةَ الْآخَرِ مِنْ الْمُعْتَقِ رَجَعَ الْمُعْتَقُ بِمَا يُؤَدِّي عَلَى الْآخَرِ لِأَنَّهُ مُؤَدًّى عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَإِنْ أَخَذَ الْآخَرُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُعْتَقِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْ نَفْسِهِ، لَا يُقَالُ: أَخْذُ الْمُعْتَقِ بِالْكَفَالَةِ تَصْحِيحٌ لِلْكَفَالَةِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ مُطَالَبًا بِجَمِيعِ الْأَلْفِ، وَالْبَاقِي بَعْضُ ذَلِكَ فَيَبْقَى عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ لِأَنَّ الْبَقَاءَ يَكُونُ عَلَى وَفْقِ الثُّبُوتِ كَمَا فِي الْمِنَحِ.
(وَلَوْ كَانَ عَلَى عَبْدٍ مَالٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ) صِفَةُ مَالٌ ، أَيْ عَلَى الْعَبْدِ (إلَّا بَعْدَ عِتْقِهِ) وَهُوَ دَيْنٌ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ بَلْ فِي حَقِّهِ يُؤَاخَذُ بَعْدَ عِتْقِهِ كَمَالٍ لَزِمَهُ بِإِقْرَارٍ أَوْ اسْتِقْرَاضٍ أَوْ اسْتِهْلَاكِ وَدِيعَةٍ (فَكَفَلَ بِهِ) أَيْ بِذَلِكَ الْمَالِ (رَجُلٌ كَفَالَةً مُطْلَقَةً) عَنْ قَيْدِ الْحُلُولِ أَوْ التَّأْجِيلِ (لَزِمَ الْكَفِيلَ حَالًّا) لِأَنَّ الْمَالَ حَالٌّ عَلَى الْعَبْدِ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَقَبُولِ ذِمَّتِهِ، إلَّا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ تَأَخَّرَتْ عَنْهُ بِعُسْرَتِهِ، إذْ هَذِهِ الدُّيُونُ لَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ لِعَدَمِ ظُهُورِهَا فِي حَقِّ الْمَوْلَى، فَصَارَ كَمَا لَوْ كَفَلَ عَنْ غَائِبٍ أَوْ مُفْلِسٍ بِخِلَافِ مَا إذَا كَفَلَ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ حَيْثُ لَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ حَالًّا بَلْ مُؤَجَّلًا (وَإِذَا أَدَّى) الْكَفِيلُ مَا عَلَى الْعَبْدِ (لَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ إلَّا بَعْدَ عِتْقِهِ) إنْ كَانَ بِأَمْرِهِ لِأَنَّ الطَّالِبَ كَانَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَكَذَا الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ.
(وَلَوْ ادَّعَى رَقَبَةَ عَبْدٍ فَكَفَلَ بِهِ رَجُلٌ فَمَاتَ الْعَبْدُ) الْمَكْفُولُ بِرَقَبَتِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُدَّعِي (فَبَرْهَنَ الْمُدَّعِي) أَيْ أَقَامَ بَيِّنَةً (أَنَّهُ) أَيْ الْعَبْدَ (لَهُ) أَيْ مِلْكُهُ (ضَمِنَ الْكَفِيلُ قِيمَتَهُ) أَيْ قِيمَةَ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ كَفَلَ عَنْ ذِي الْيَدِ بِتَسْلِيمِ رَقَبَةِ الْعَبْدِ، لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَدَّعِي غَصْبَ الْعَبْدِ عَلَى ذِي الْيَدِ؛ وَالْكَفَالَةُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا جَائِزَةٌ فَيَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ رَدُّ الْعَيْنِ فَإِنْ هَلَكَتْ تَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا بِخِلَافِ مَا إذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ بِإِقْرَارِ ذِي الْيَدِ وَبِنُكُولِهِ، لِأَنَّ إقْرَارَ الْأَصِيلِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ فَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يُقِرَّ بِهِ الْكَفِيلُ بِنَفْسِهِ.
(وَلَوْ كَفَلَ سَيِّدٌ عَنْ عَبْدِهِ بِأَمْرِهِ أَوْ) كَفَلَ (عَبْدٌ غَيْرُ مَدْيُونٍ) قَيَّدَ بِهِ تَصْحِيحًا لِلْكَفَالَةِ فَإِنَّ كَفَالَةَ الْمَدْيُونِ عَنْ مَوْلَاهُ لَا تَصِحُّ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ (عَنْ سَيِّدِهِ) بِأَمْرِهِ (فَعَتَقَ) الْعَبْدُ (فَأَيٌّ) مِنْ السَّيِّدِ أَوْ الْعَبْدِ (أَدَّى) الْمَالَ الْمَكْفُولَ بِهِ (لَا يَرْجِعُ عَلَى الْآخَرِ) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَقَعَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَسْتَوْجِبُ دَيْنًا عَلَى الْآخَرِ.
وَقَالَ زُفَرُ: إنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِالْأَمْرِ يَرْجِعُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ الْمَانِعَ وَهُوَ الرِّقُّ قَدْ زَالَ، قُلْنَا: وَقَعَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلرُّجُوعِ فَلَا تَنْقَلِبُ مُوجِبَةً لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ.

.كِتَابُ الْحَوَالَةِ:

ذَكَرَهَا بَعْدَ الْكَفَالَةِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَقْدُ الْتِزَامِ مَا عَلَى الْأَصِيلِ لِلتَّوَثُّقِ إلَّا أَنَّ الْحَوَالَةَ تَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ بَرَاءَةً مُقَيَّدَةً بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ فَكَانَتْ كَالْمُرَكَّبِ مَعَ الْمُفْرَدِ، وَالْمُفْرَدُ مُقَدَّمٌ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ، وَحُرُوفُهَا كَيْفَ مَا تَرَكَّبَتْ دَارَتْ عَلَى مَعْنَى النَّقْلِ وَالزَّوَالِ.
وَقِيلَ: هِيَ اسْمٌ بِمَعْنَى الْإِحَالَةِ، يُقَالُ: أَحَلْتُ زَيْدًا بِمَالِهِ عَلَى فُلَانٍ، وَلِذَا قِيلَ لِلْمَدْيُونِ مُحِيلٌ وَمُحْتَالٌ، وَلِلدَّائِنِ مُحَالٌ وَمُحْتَالٌ، وَلِمَنْ يَقْبَلُ الْحَوَالَةَ مُحَالٌ عَلَيْهِ وَمُحْتَالٌ عَلَيْهِ، وَلِلدَّيْنِ مُحَالٌ بِهِ وَمُحْتَالٌ بِهِ، لَكِنْ تُرِكَ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ مُحْتَالٌ فِي مُحِيلٍ فِرَارًا عَنْ الْتِبَاسِهِ الْمَفْعُولَ مِنْ بَابِهِ، وَقَدْ فَرَّقَ الْبَعْضُ بِإِلْحَاقٍ لَهُ إلَى الْمَفْعُولِ، وَقَالَ مُحْتَالٌ لَهُ، قِيلَ: هُوَ لَغْوٌ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى الصِّلَةِ.
وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ (هِيَ) أَيْ الْحَوَالَةُ (نَقْلُ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ) أَيْ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي أَنَّهَا هَلْ تُوجِبُ الْبَرَاءَةَ عَنْ الدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةِ جَمِيعًا أَوْ عَنْ الْمُطَالَبَةِ دُونَ الدَّيْنِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا تُوجِبُ الْبَرَاءَةَ مِنْ الدَّيْنِ كَمَا فِي الْمِنَحِ.

.ما تصح فيه الحوالة:

(وَتَصِحُّ) الْحَوَالَةُ (فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعَيْنِ) أَمَّا الصِّحَّةُ فَبِالْإِجْمَاعِ وَبِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» أَيْ إذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ، وَالْأَمْرُ بِالِاتِّبَاعِ دَلِيلُ الْجَوَازِ، وَأَمَّا اخْتِصَاصُهَا بِالدَّيْنِ فَلِأَنَّ الْحَوَالَةَ نَقْلٌ حُكْمِيٌّ وَالدَّيْنَ وَصْفٌ حُكْمِيٌّ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَجَازَ لِلدَّيْنِ أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ النَّقْلَ أَمَّا الْعَيْنُ كَالثَّوْبِ فَحِسِّيٌّ فَلَا يَقْبَلُ النَّقْلَ الْحُكْمِيَّ بَلْ يَحْتَاجُ إلَى النَّقْلِ الْحِسِّيِّ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْمُحْتَالِ دَيْنٌ عَلَى الْمُحِيلِ وَلِذَا قَالَ فِي الْقُنْيَةِ: أَحَالَ عَلَيْهِ مِائَةً مِنْ الْحِنْطَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا لِلْمُحْتَالِ عَلَى الْمُحِيلِ فَقَبِلَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ (بِرِضَى) مُتَعَلِّقٌ بِتَصِحُّ (الْمُحْتَالِ) لِأَنَّ الدَّيْنَ حَقُّهُ وَالذِّمَمَ مُتَفَاوِتَةٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْإِيفَاءِ وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ (وَالْمُحْتَالِ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الدَّيْنَ يَلْزَمُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْتِزَامِهِ وَالْأَصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنْ لَا حَاجَةَ إلَى رِضَاهُ إذَا كَانَ الْمُحَالُ بِهِ دَيْنَ الْمُحِيلِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْمُحِيلِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ.
قَيَّدَ بِرِضَاهُمَا لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ مَعَ إكْرَاهِ أَحَدِهِمَا وَأَرَادَ مِنْ الرِّضَى الْقَبُولَ فِي مَجْلِسِ الْإِيجَابِ لَكِنْ فِي الْبَزَّازِيَّةِ لَوْ أَحَالَ إلَى غَائِبٍ فَقَبِلَ بَعْدَمَا عَلِمَ صَحَّتْ وَلَا تَصِحُّ فِي غَيْبَةِ الْمُحْتَالِ إلَّا أَنْ يَقْبَلَ رَجُلٌ لَهُ الْحَوَالَةَ (وَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ رِضَى الْمُحِيلِ أَيْضًا) كَمَا لَا بُدَّ مِنْ رِضَى الْمُحْتَالِ وَالْمُحْتَالِ عَلَيْهِ.
وَفِي الْبَحْرِ: رِضَى الْمُحِيلِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ وَشَرْطِ الْقُدُورِيِّ، وَإِنَّمَا شَرَطَهُ لِلرُّجُوعِ عَلَيْهِ فَلَا اخْتِلَافَ فِي الرِّوَايَاتِ.
وَفِي الْعِنَايَةِ وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْحَوَالَةَ تَصِحُّ بِدُونِ رِضَاهُ لِأَنَّ الْتِزَامَ الدَّيْنِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَالْمُحِيلُ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ بَلْ فِيهِ نَفْعُهُ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ، قِيلَ: وَعَلَى هَذَا تَكُونُ فَائِدَةُ اشْتِرَاطِهِ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ بِأَمْرِهِ، وَقِيلَ: لَعَلَّ مَوْضُوعَ مَا ذُكِرَ فِي الْقُدُورِيِّ أَنْ يَكُونَ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِقَدْرِ مَا يَقْبَلُ الْحَوَالَةَ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ إسْقَاطًا لِمُطَالَبَةِ الْمُحِيلِ عَنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَلَا تَصِحُّ إلَّا بِرِضَاهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَوَالَةَ قَدْ تَكُونُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمُحِيلِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ إحَالَةٌ وَهِيَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْإِرَادَةِ وَالرِّضَى وَهُوَ وَجْهُ رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ.
وَالثَّانِي احْتِيَالٌ يَتِمُّ بِدُونِ إرَادَةِ الْمُحِيلِ بِإِرَادَةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَرِضَاهُ وَهُوَ وَجْهُ رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ وَعَلَى هَذَا اشْتِرَاطُهُ مُطْلَقًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ بِنَاءً عَلَى إيفَاءِ الْحَقِّ حَقَّهُ فَلَهُ إيفَاؤُهُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ مِنْ غَيْرِ قَسْرٍ عَلَيْهِ بِتَعْيِينِ بَعْضِ الْجَهَالَةِ، أَوْ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ مُطْلَقًا كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الشَّارِحِينَ بِنَاءً عَلَى رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي انْتَهَى.
(، وَإِذَا تَمَّتْ) الْحَوَالَةُ (بَرِئَ الْمُحِيلُ) مِنْ الدَّيْنِ (بِالْقَبُولِ) أَيْ بِقَبُولِ الْمُحْتَالِ الْحَوَالَةَ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَبْرَأُ اعْتِبَارًا بِالْكَفَالَةِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ تَوَثُّقٍ بِحَقٍّ وَلَنَا أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ تُبْنَى عَلَى وَفْقِ الْمَعَانِي، فَمَعْنَى الْحَوَالَةِ النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِفَرَاغِ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ.
قَوْلُهُ مِنْ الدَّيْنِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ يَبْرَأُ عَنْ الْمُطَالَبَةِ لَا الدَّيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ آنِفًا وَمُرَادُهُ أَنَّهُ يَبْرَأُ بَرَاءَةً مَوْقُوفَةً، وَمُقْتَضَى مَا ذُكِرَ مِنْ بَرَاءَةِ الْمُحِيلِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ أَحَالَ الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى رَجُلٍ لَمْ يَمْلِكْ حَبْسَ الْمَبِيعِ وَكَذَا لَوْ أَحَالَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ لَا يَحْبِسُ الرَّهْنَ، وَلَوْ أَحَالَ الزَّوْجُ الْمَرْأَةَ بِصَدَاقِهَا لَمْ تَحْبِسْ نَفْسَهَا بِخِلَافِ الْعَكْسِ فِي الثَّلَاثَةِ وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْبَحْرِ قَالَ، وَلَكِنَّ الْمَنْقُولَ فِي الزِّيَادَاتِ عَكْسُهُ، وَقَوْلُهُ بِالْقَبُولِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ إذَا تَمَّتْ الْحَوَالَةُ (فَلَا يَأْخُذُ الْمُحْتَالُ مِنْ تَرِكَتِهِ) أَيْ مِنْ تَرِكَةِ الْمُحِيلِ الدَّيْنَ إذَا مَاتَ الْمُحِيلُ (لَكِنْ يَأْخُذُ كَفِيلًا مِنْ الْوَرَثَةِ أَوْ الْغُرَمَاءِ مَخَافَةَ التَّوَى) أَيْ الْهَلَاكِ (وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ) الْمُحْتَالُ (إلَّا إذَا تَوِيَ حَقُّهُ) فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ عَلَيْهِ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ «إذَا مَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا عَادَ الدَّيْنُ» وَلِأَنَّ بَرَاءَتَهُ مُقَيَّدَةٌ بِسَلَامَةِ حَقِّهِ لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ السَّلَامَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ عِنْد التَّوَى بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ لِأَنَّ السَّاقِطَ لَا يَعُودُ.
وَفِي الْبَحْرِ: وَمُرَادُهُ إذَا كَانَتْ الْحَوَالَةُ بَاقِيَةً أَمَّا إذَا فُسِخَتْ الْحَوَالَةُ فَإِنَّ لِلْمُحْتَالِ الرُّجُوعَ بِدَيْنِهِ عَلَى الْمُحِيلِ، وَلِذَا قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: إنَّ حُكْمَهَا يَنْتَهِي بِفَسْخِهَا وَبِالتَّوَى، وَقَوْلُهُ وَبِالتَّوَى مُقَيَّدٌ بِأَنْ لَا يَكُونَ الْمُحِيلُ هُوَ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ ثَانِيًا لِمَا فِي الذَّخِيرَةِ: رَجُلٌ أَحَالَ رَجُلًا لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ، ثُمَّ إنَّ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ أَحَالَهُ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ بَرِئَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ فَإِنْ تَوِيَ الْمَالُ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ لَا يَعُودُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ الْأَوَّلِ (وَهُوَ بِمَوْتِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا) بِأَنْ لَمْ يَتْرُكْ مَالًا عَيْنًا وَلَا دَيْنًا وَلَا كَفِيلًا (أَوْ إنْكَارِهِ) أَيْ إنْكَارِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ (الْحَوَالَةَ وَحَلِفِهِ) أَيْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ (وَلَا بَيِّنَةَ) لِلْمُحْتَالِ وَالْمُحِيلِ (عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الْحَوَالَةِ وَهَذَا عِنْدَ الْإِمَامِ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ الْوُصُولِ يَتَحَقَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَهُوَ التَّوَى فِي الْحَقِيقَةِ (وَعِنْدَهُمَا بِتَفْلِيسِ الْقَاضِي إيَّاهُ) أَيْ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ (أَيْضًا) لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْأَخْذِ مِنْهُ بِتَفْلِيسِ الْحَاكِمِ، وَقَطْعُهُ عَنْ مُلَازَمَتِهِ عِنْدَهُمَا كَعَجْزِهِ عَنْ الِاسْتِيفَاءِ بِمَوْتِهِ مُفْلِسًا وَبِالْجُحُودِ.
قَيَّدْنَا بِأَنْ لَمْ يَتْرُكْ كَفِيلًا لِأَنَّ وُجُودَ الْكَفِيلِ يَمْنَعُ مَوْتَهُ مُفْلِسًا عَلَى مَا فِي الزِّيَادَاتِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ لَا يَمْنَعُ، وَإِنَّ الْمُحْتَالَ لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِدَيْنِهِ عَلَى الْمُحِيلِ.
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ أَخَذَ الْمُحْتَالُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ كَفِيلًا، ثُمَّ مَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا لَا يَعُودُ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، سَوَاءٌ كَفَلَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَالْكَفَالَةُ حَالَّةٌ أَوْ مُؤَجَّلَةٌ، أَوْ كَفَلَ حَالًّا، ثُمَّ أَجَّلَهُ الْمَكْفُولُ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ كَفِيلٌ وَلَكِنْ تَبَرَّعَ رَجُلٌ أَوْ رَهَنَ بِهِ رَهْنًا، ثُمَّ مَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا عَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ وَلَوْ كَانَ مُسَلَّطًا عَلَى الْبَيْعِ فَبَاعَهُ وَلَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ حَتَّى مَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ، وَالثَّمَنُ لِصَاحِبِ الرَّهْنِ وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي كَوْنِهِ مُفْلِسًا فَالْقَوْلُ لِلْمُحْتَالِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الْعِلْمِ.
(وَتَصِحُّ) الْحَوَالَةُ (بِالدَّرَاهِمِ الْمُودَعَةِ) يَعْنِي إذَا أَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَأَحَالَ بِهَا عَلَيْهِ آخَرَ صَحَّ، لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْجَوَازِ (وَيَبْرَأُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ) عَنْ الْحَوَالَةِ (بِهَلَاكِهَا) كَالزَّكَاةِ الْمُقَيَّدَةِ بِالنِّصَابِ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ الْتَزَمَ الْأَدَاءَ مِنْ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ وَهِيَ قَدْ هَلَكَتْ أَمَانَةً، وَأَيْضًا يَبْرَأُ الْمُودَعُ عَنْ الْحَوَالَةِ إذَا اُسْتُحِقَّتْ الدَّرَاهِمُ الْمُودَعَةُ فَيَعُودُ الدَّيْنُ عَلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ.
(وَبِالْمَغْصُوبَةِ) أَيْ تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِالدَّرَاهِمِ الَّتِي غَصَبَهَا الْمُحَالُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُحِيلِ (وَلَا يَبْرَأُ بِهَلَاكِهَا) أَيْ لَا يَبْرَأُ الْغَاصِبُ بِهَلَاكِ الْمَغْصُوبَةِ لِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُ الْحَوَالَةَ لِأَنَّهُ فَاتَ إلَى خَلَفٍ - وَهُوَ الضَّمَانُ - وَالْخَلَفُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ وَكَانَ الْمَغْصُوبُ قَائِمًا مَعْنًى فَلَا يَبْطُلُ وَأَمَّا إذَا اُسْتُحِقَّ الْمَغْصُوبُ بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ وَصَلَ إلَى مَالِكِهِ فَهُوَ يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْغَاصِبِ عَنْ الضَّمَان.
(وَإِذَا قُيِّدَتْ الْحَوَالَةُ بِالدَّيْنِ أَوْ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْغَصْبِ لَا يُطَالِبُ الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ) أَيْ لَا يَطْلُبُ الْمُحِيلُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مَا عِنْدَهُ أَوْ عَلَيْهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ الْمُودَعَةِ أَوْ الْمَغْصُوبَةِ أَوْ الدَّيْنِ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَوَالَةَ الْمُقَيَّدَةَ تَتَضَمَّنُ تَوْكِيلَ الْمُحْتَالِ بِقَبْضِ مَا عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، أَوْ مَا عِنْدَهُ، وَيَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مَا عِنْدَهُ أَوْ عَلَيْهِ بِأَمْرِ الْمُحِيلِ؛ فَلَا يَطْلُبُ الْمُحِيلُ ذَلِكَ مِنْ الْمُحْتَالِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُحْتَالِ، كَالرَّاهِنِ لَا يَمْلِكُ مُطَالَبَتَهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ حَتَّى يَضْمَنَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ لِلْمُحْتَالِ إنْ دَفَعَ إلَى الْمُحِيلِ (مَعَ أَنَّ الْمُحْتَالَ أُسْوَةٌ لِغُرَمَاءِ الْمُحِيلِ بَعْدَ مَوْتِهِ) أَيْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُحِيلِ يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ إذَا تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْمُحْتَالِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ الْمُحْتَالُ أُسْوَةً لِغُرَمَاءِ الْمُحِيلِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا فِي الرَّهْنِ مَعَ أَنَّهُ أُسْوَةٌ لَهُمْ لِأَنَّ الْعَيْنَ الَّذِي بِيَدِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِلْمُحِيلِ، وَالدَّيْنَ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ لَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا لِلْمُحْتَالِ بِعَقْدِ الْحَوَالَةِ لَا يَدًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا رَقَبَةً؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مَا وُضِعَتْ لِلتَّمْلِيكِ بَلْ لِلنَّقْلِ فَيَكُونُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَيَمْلِكُ الْمَرْهُونَ يَدًا وَحَبْسًا، فَيَثْبُتُ لَهُ نَوْعُ اخْتِصَاصٍ بِالْمَرْهُونِ - شَرْعًا - لَمْ يَثْبُتْ لِغَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ.
وَقَالَ زُفَرُ: الْمُحْتَالُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ الدَّيْنَ صَارَ لَهُ بِالْحَوَالَةِ كَالْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ بَعْدَ مَوْتِ الرَّاهِنِ.
(وَإِنْ لَمْ تُقَيَّدْ) الْحَوَالَةُ (بِشَيْءٍ) مِنْ الْمَذْكُورَاتِ (فَلَهُ) أَيْ لِلْمُحِيلِ (الْمُطَالَبَةُ) مِنْ الْمُحْتَالِ بِالْعَيْنِ أَوْ الدَّيْنِ، وَيَقْدِرُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى الْمُحِيلِ، إذْ لَا تَعَلُّقَ لِحَقِّ الْمُحْتَالِ بِمَا عِنْدَهُ أَوْ عَلَيْهِ بَلْ حَقُّهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، وَفِي ذِمَّتِهِ سَعَةٌ، فَغَايَةُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ أَدَاءُ دَيْنِ الْمُحْتَالِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ (وَلَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ) سَوَاءٌ كَانَتْ مُقَيَّدَةً أَوْ مُطْلَقَةً (بِأَخْذِهِ) أَيْ الْمُحِيلِ (مَا عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ) مِنْ الدَّيْنِ (أَوْ عِنْدَهُ) مِنْ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْغَصْبِ أَمَّا فِي الْمُطْلَقَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِعَدَمِ الْإِضَافَةِ إلَيْهَا، وَأَمَّا فِي الْمُقَيَّدَةِ فَلِأَنَّ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ قَدْ دَفَعَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُحْتَالِ إلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ فَيَضْمَنُهُ لِلْمُحْتَالِ وَيَرْجِعُ إلَى الْمُحِيلِ بِمَا دَفَعَ إلَيْهِ فَلَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ.
(وَإِذَا طَالَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْمُحِيلَ بِمِثْلِ مَا أَحَالَ بِهِ فَقَالَ: أَحَلْتُ بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك لَا يُقْبَلُ بِلَا حُجَّةٍ) أَيْ لَا يُسْمَعُ قَوْلُ الْمُحِيلِ لِلْمُحْتَالِ عَلَيْهِ أَحَلْتُ بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك حِينَ طَلَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُحِيلِ مِثْلَ مَا أَحَالَهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، إذْ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ أَنْكَرَ الدَّيْنَ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْحَوَالَةِ وَقَبُولَهُ لَا يَكُونُ إقْرَارًا وَلَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ لَهُ دَيْنًا، إذْ الْحَوَالَةُ تَجُوزُ بِدُونِ الدَّيْنِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بَلْ يُسْمَعُ طَلَبُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ - هُوَ أَدَاءُ الدَّيْنِ بِأَمْرِهِ - (وَلَوْ طَالَبَ الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ بِمَا أَحَالَ فَقَالَ: أَحَلْتنِي بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك لَا يُقْبَلُ بِلَا حُجَّةٍ) أَيْ لَا يُسْمَعُ قَوْلُ الْمُحْتَالِ لِلْمُحِيلِ: أَحَلْتنِي بِدَيْنٍ لِي عَلَيْك حِينَ طَلَبَ الْمُحِيلُ مِنْ الْمُحْتَالِ مَا قَبَضَهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّ الْمُحِيلَ أَنْكَرَ الدَّيْنَ، إذْ إقْرَارُهُ بِالْحَوَالَةِ، وَإِقْدَامُهُ عَلَيْهَا لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تُسْتَعْمَلُ فِي الْوَكَالَةِ بِمَعْنَى نَقْلِ التَّصَرُّفِ بَلْ يُسْمَعُ طَلَبُ الْمُحِيلِ كَطَلَبِ الْمُوَكِّلِ مِنْ الْوَكِيلِ مَا قَبَضَهُ.
وَفِي التَّنْوِيرِ: أَدَّى الْمَالَ فِي الْحَوَالَةِ الْفَاسِدَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْقَابِضِ وَهُوَ الْمُحْتَالُ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْمُحِيلِ وَلَا يَصِحُّ تَأْجِيلُ عَقْدِهَا.

.حكم السفتجة:

(وَتُكْرَهُ السَّفْتَجَةُ) بِضَمِّ السِّينِ وَالتَّاءِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَبِفَتْحِ التَّاءِ عِنْدَ الْأَخْفَشِ تَعْرِيبُ سفته وَمَعْنَاهَا الْمُحْكَمُ (وَهِيَ الْإِقْرَاضُ) أَيْ أَنْ يُقْرِضَ إلَى تَاجِرٍ مَثَلًا قَرْضًا لِيَدْفَعَهُ إلَى صَدِيقِهِ فِي بَلَدٍ آخَرَ (لِسُقُوطِ خَطَرِ الطَّرِيقِ)، وَإِنَّمَا كُرِهَتْ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي هَذَا الْبَابِ لِأَنَّ هَذَا الْإِقْرَاضَ فِي مَعْنَى حَوَالَةِ الصَّدِيقِ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ أَوْ لِأَنَّهُ حَوَالَةُ الطَّرِيقِ إلَيْهِ أَوْ لِأَنَّ الْمُقْرِضَ يُحِيلُهُ بِالْأَدَاءِ إلَى الصَّدِيقِ.

.كِتَابُ الْقَضَاءِ:

لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْمُنَازَعَاتِ يَقَعُ فِي الْبِيَاعَاتِ وَالدُّيُونِ عَقَّبَهَا بِمَا يَقْطَعُهَا وَهُوَ قَضَاءُ الْقَاضِي، أَضَافَ الْكِتَابَ إلَى الْقَضَاءِ دُونَ الْأَدَبِ نَظَرًا إلَى أَنَّ بَيَانَ الْقَضَاءِ مَقْصُودٌ، وَبَيَانَ الْأَدَبِ مَتْبُوعٌ، وَالْقَضَاءُ فِي اللُّغَةِ لَهُ مَعَانٍ يَكُونُ بِمَعْنَى الْإِتْقَانِ وَالْإِحْكَامِ، فَفِي الْمِصْبَاحِ أَنَّهُ مَصْدَرُ قَضَيْت بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَعَلَيْهِمَا حَكَمْت، وَالْجَمْعُ الْأَقْضِيَةُ، وَقَضَى أَيْ حَكَمَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ} وَبِمَعْنَى الْإِبْلَاغِ وَبِمَعْنَى الْأَدَاءِ وَالْإِنْهَاءِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} {وَقَضَيْنَا إلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} أَيْ أَنْهَيْنَاهُ إلَيْهِ وَأَبْلَغْنَاهُ ذَلِكَ وَبِمَعْنَى الصُّنْعِ وَالتَّقْدِيرِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} وَمِنْهُ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ، وَيُقَالُ: اسْتَقْضَى فُلَانًا أَيْ صَيَّرَهُ قَاضِيًا.
وَفِي الشَّرْحِ هُوَ قَطْعُ الْخُصُومَةِ أَوْ قَوْلٌ مُلْزِمٌ صَدَرَ عَنْ وِلَايَةٍ عَامَّةٍ وَفِيهِ مَعَانِي اللُّغَةِ جَمِيعًا، فَكَأَنَّهُ أَلْزَمَهُ بِالْحُكْمِ وَأَخْبَرَهُ بِهِ وَفَرَغَ عَنْ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا وَقَدَّرَ مَا عَلَيْهِ وَمَا لَهُ وَأَقَامَ قَضَاهُ مَقَامَ صُلْحِهِمَا وَتَرَاضِيهِمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعٌ لِلْخُصُومَةِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَمَحَاسِنُهُ لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَفَسَدَ الْعِبَادُ وَخَرِبَ الْبِلَادُ وَانْتَشَرَ الظُّلْمُ وَالْفَسَادُ، وَالْحَاكِمُ نَائِبُ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي أَرْضِهِ فِي إنْصَافِ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ، وَإِيصَالِ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَبِهِ أُمِرَ كُلُّ نَبِيٍّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} وَلِأَجْلِهِ بُعِثَ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَكَانَ عَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَلِهَذَا قَالَ (الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ مِنْ أَقْوَى الْفَرَائِضِ وَأَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ) بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى -، ثُمَّ هُوَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: وَاجِبٌ وَهُوَ أَنْ يَتَعَيَّنَ لَهُ وَلَا يُوجَدَ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ غَيْرُهُ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَفْعَلْ أَدَّى إلَى تَضْيِيعِ الْحُكْمِ، فَيَكُونَ قَبُولُهُ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ، وَإِنْصَافَ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ.
وَمُسْتَحَبٌّ وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ غَيْرُهُ لَكِنْ هُوَ أَصْلَحُ وَأَقْوَمُ بِهِ.
وَمُخَيَّرٌ فِيهِ وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَ هُوَ وَغَيْرُهُ فِي الصَّلَاحِيَّةِ وَالْقِيَامِ بِهِ.
وَمَكْرُوهٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلْقَضَاءِ لَكِنَّ غَيْرَهُ أَصْلَحُ وَأَقْوَمُ بِهِ.
وَحَرَامٌ وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْهُ وَعَدَمَ الْإِنْصَافِ فِيهِ فِي بَاطِنِهِ مِنْ اتِّبَاعِ الْهَوَى بِمَا لَا يَعْرِفُهُ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ رِزْقَهُ وَكِفَايَتَهُ وَكِفَايَةَ أَهْلِهِ وَأَعْوَانِهِ وَمَنْ يُمَوِّنُهُمْ يَكُونُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ لِحَقِّ الْعَامَّةِ فَلَوْلَا الْكِفَايَةُ رُبَّمَا يَطْمَعُ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ، وَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَعْطَى شُرَيْحًا كُلَّ شَهْرٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَأَعْطَاهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كُلَّ شَهْرٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ.
(وَأَهْلُهُ) أَيْ الْقَضَاءِ (مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ) لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ لِأَنَّهُ تَنْفِيذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ، وَلِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إلْزَامٌ إذْ الشَّهَادَةُ مُلْزِمَةٌ عَلَى الْقَاضِي وَالْقَضَاءُ مُلْزِمٌ عَلَى الْخَصْمِ.
(وَشَرْطُ أَهْلِيَّتِهِ) أَيْ الْقَضَاءِ (شَرْطُ أَهْلِيَّتِهَا) أَيْ الشَّهَادَةِ مِنْ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا سَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَالْفَاسِقُ أَهْلٌ لَهُ) أَيْ لِلْقَضَاءِ (وَيَصِحُّ تَقْلِيدُهُ) أَيْ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ أَيْ الْمُسْلِمِ الَّذِي أَقْدَمَ عَلَى كَبِيرَةٍ أَوْ أَصَرَّ عَلَى صَغِيرَةٍ، وَفِيهِ إشْعَارٌ بِأَنَّ قَضَاءَ الْمَسْتُورِ صَحِيحٌ بِلَا قُبْحٍ كَمَا فِي الْقُهُسْتَانِيِّ، وَبِأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ الْأَوْلَوِيَّةِ وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ كَمَا فِي الِاخْتِيَارِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ (وَيَجِبُ أَنْ لَا يُقَلَّدَ) الْفَاسِقُ الْقَضَاءَ إذْ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ لِقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِوَاسِطَةِ فِسْقِهِ حَتَّى لَوْ قُلِّدَ كَانَ الْمُقَلِّدُ آثِمًا (كَمَا يَصِحُّ قَبُولُ شَهَادَتِهِ) أَيْ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ حَتَّى لَوْ قَبِلَ الْقَاضِي وَحَكَمَ بِهَا كَانَ آثِمًا، وَلَكِنَّهُ يَنْفُذُ.
وَفِي الدُّرَرِ هَذَا إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ وَهُوَ مِمَّا يُحْفَظُ (وَيَجِبُ أَنْ لَا تُقْبَلَ) شَهَادَتُهُ وَفِي الشُّمُنِّيِّ اجْتِمَاعُ هَذِهِ الشَّرَائِطِ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالْعَدَالَةِ وَغَيْرِهِمَا مُتَعَذَّرٌ فِي عَصْرِنَا لِخُلُوِّ الْعَصْرِ عَنْ الْمُجْتَهِدِ وَالْعَدْلِ، فَالْوَجْهُ تَنْفِيذُ قَضَاءِ كُلِّ مَنْ وَلَّاهُ سُلْطَانٌ ذُو شَوْكَةٍ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا فَاسِقًا، قَالَ قَاضِي خَانْ: وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ بِالشَّرْطِ وَكَذَا الْإِضَافَةُ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَتَعْلِيقُ عَزْلِ الْقَاضِي بِالشَّرْطِ صَحِيحٌ كَتَعْلِيقِ الْوَكَالَةِ وَلَوْ كَانَ فِي الْمِصْرِ قَاضِيَانِ، كُلٌّ عَلَى مَحَلَّةٍ عَلَى حِدَةٍ فَالْعِبْرَةُ لِلْمُدَّعِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
(وَلَوْ فَسَقَ) الْقَاضِي (الْعَدْلُ) بِأَخْذِ الرِّشْوَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الزِّنَاءِ أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ (يَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ) أَيْ يَجِبُ عَلَى السُّلْطَانِ عَزْلُهُ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ.
وَفِي الْمِعْرَاجِيَّةِ يَحْسُنُ عَزْلُهُ لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ (وَلَا يَنْعَزِلُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ مَشَايِخُنَا)، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى كَمَا فِي الْوَاقِعَاتِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: إذَا قُلِّدَ الْفَاسِقُ ابْتِدَاءً يَصِحُّ وَلَوْ قُلِّدَ وَهُوَ عَدْلٌ يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ.
وَفِي الْإِصْلَاحِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، لَكِنْ فِي الْبَحْرِ وَهُوَ غَرِيبٌ وَلَمْ أَرَهُ وَالْمَذْهَبُ خِلَافُهُ وَتَمَامُهُ فِيهِ، فَلْيُطَالَعْ.
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ لَوْ شُرِطَ التَّقْلِيدُ أَنَّهُ مَتَى فَسَقَ يَنْعَزِلُ.
وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ هِشَامٍ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ فَسَقَ الْقَاضِي، ثُمَّ تَابَ فَهُوَ عَلَى قَضَائِهِ كَمَا إذَا عَمِيَ، ثُمَّ أَبْصَرَ، وَكَذَا إذَا ارْتَدَّ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى - ثُمَّ أَسْلَمَ.
قَيَّدَ بِالْقَضَاءِ لِأَنَّ الْفِسْقَ لَا يَمْنَعُ الْإِمَامَةَ بِلَا خِلَافٍ وَلَا يَنْعَزِلُ بِالْفِسْقِ.
وَفِي الْبَحْرِ: الْوَالِي إذَا فَسَقَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي يَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ وَلَا يَنْعَزِلُ وَلَوْ حَكَمَ الْوَالِي بِنَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوَّضْ إلَيْهِ.
(وَلَوْ أَخَذَ الْقَضَاءَ بِالرِّشْوَةِ لَا يَصِيرُ قَاضِيًا) أَيْ بِمَالٍ دَفَعَهُ لِتَوْلِيَتِهِ لَمْ تَصِحَّ تَوْلِيَتُهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَلَوْ قَضَى لَمْ يَنْفُذْ، وَبِهِ يُفْتَى إذْ الْإِمَامُ لَوْ قُلِّدَ بِرِشْوَةٍ أَخَذَهَا هُوَ أَوْ قَوْمُهُ وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِهِ لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُهُ كَقَضَائِهِ بِرِشْوَةٍ كَمَا فِي الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ أَرَ حُكْمَ مَا لَوْ أَخَذَ قَوْمُهُ - وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِهِ - هَلْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ أَمْ لَا ؟ وَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ تَقْلِيدُهُ لِأَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ يَقْتَضِي جَوَازَهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ كَمَا لَوْ ارْتَشَى وَكِيلُ الْقَاضِي أَوْ نَائِبُهُ أَوْ كَاتِبُهُ أَوْ بَعْضُ أَعْوَانِهِ فَإِنْ بِأَمْرِهِ وَرِضَاهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ ارْتَشَى بِنَفْسِهِ، وَإِنْ بِغَيْرِ عِلْمِهِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَعَلَى الْمُرْتَشِي رَدُّ مَا قَبَضَ، تَتَبَّعْ.
قَيَّدَ بِالتَّوْلِيَةِ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ الْقَاضِي الرِّشْوَةَ وَقَضَى لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِيمَا ارْتَشَى بِالْإِجْمَاعِ وَحَكَى فِي الْفُصُولِ فِيهِ اخْتِلَافًا فَقِيلَ لَا يَنْفُذُ فِيمَا ارْتَشَى وَيَنْفُذُ فِيمَا سِوَاهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ، وَقِيلَ لَا يَنْفُذُ فِيهِمَا، وَقِيلَ: يَنْفُذُ فِيهِمَا.
وَفِي الْبَحْرِ قَضَى، ثُمَّ ارْتَشَى، أَوْ ارْتَشَى، ثُمَّ قَضَى أَوْ ارْتَشَى وَلَدُهُ أَوْ بَعْضُ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ لَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ الْمَالَ أَوْ ابْنُهُ يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ أَوْ ابْنِهِ.
الْقَاضِي الْمُوَلَّى أَخَذَ الرِّشْوَةَ، ثُمَّ بَعَثَهُ إلَى شَافِعِيِّ الْمَذْهَبِ لِيَحْكُمَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَتَبَ إلَيْهِ الْقَاضِي لِيَسْمَعَ الْخُصُومَةَ، أَوْ أَخَذَ أُجْرَةَ مِثْلِ الْكِتَابَةِ يَنْفُذُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرِشْوَةٍ لِمَا فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ: يَحِلُّ لِلْقَاضِي أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى كِتْبَةِ السِّجِلَّاتِ وَالْمَحَاضِرِ وَعِنْدَهُمَا لِكُلِّ أَلْفِ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ الْأَلْفِ لَكِنْ لَحِقَهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ مِثْلُ ذَلِكَ فَفِيهِ خَمْسَةٌ أَيْضًا.
وَفِي الْخِزَانَةِ وَمَا قِيلَ: فِي الْأَلْفِ مِنْ الثَّمَنِ خَمْسَةٌ، لَا نَقُولُ بِهِ وَلَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِفِقْهِ أَصْحَابِنَا وَأَيُّ مَشَقَّةٍ لِلْكَاتِبِ فِي أَخْذِ الثَّمَنِ، وَإِنَّمَا أُجْرَةُ مِثْلِهِ بِقَدْرِ مَشَقَّتِهِ وَبِقَدْرِ عَمَلِهِ فِي صَنْعَتِهِ أَيْضًا كَمَا يُسْتَأْجَرُ الْحَكَّاكُ وَالنَّقَّابُ بِأَجْرٍ كَثِيرٍ فِي مَشَقَّةٍ قَلِيلَةٍ، وَأُجْرَةُ كِتْبَةِ الْقَبَالَةِ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَا دُفِعَ إمَّا دُفِعَ لِلتَّوَدُّدِ، وَهُوَ حَلَالٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَإِمَّا لِصَيْرُورَتِهِ قَاضِيًا وَهُوَ حَرَامٌ مِنْهُمَا، وَإِمَّا لِخَوْفٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْآخِذِ حَلَالٌ لِلدَّافِعِ وَكَذَا إذَا طَمِعَ فِي مَالِهِ فَرَشَاهُ بِبَعْضِ الْمَالِ، وَإِمَّا لِيُسَوِّيَ أَمْرَهُ عِنْدَ الْوَالِي فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ حَرَامًا فَحَرَامٌ عَلَى الْجَانِبَيْنِ، وَإِنْ كَانَ حَلَالًا فَحَرَامٌ عَلَى الْآخِذِ إنْ اشْتَرَطَ وَحَلَالٌ لِلدَّافِعِ إلَّا أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِمَا يَدْفَعُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ حَلَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُسَوِّيَ أَمْرَهُ وَأَعْطَاهُ بَعْدَمَا يُسَوِّي اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَحِلُّ لَهُ الْأَخْذُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَحِلُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ بِرٌّ وَمُجَازَاةُ الْإِحْسَانِ فَيَحِلُّ كَمَا فِي الْبَحْرِ: وَالرِّشْوَةُ لَا تُمْلَكُ وَلِذَا يَلْزَمُ الِاسْتِرْدَادُ.
(وَالْفَاسِقُ يَصْلُحُ مُفْتِيًا) لِأَنَّهُ يَجْتَهِدُ حَذَرًا عَنْ النِّسْبَةِ إلَى الْخَطَأِ (وَقِيلَ لَا) يَصْلُحُ لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَخَبَرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الدِّيَانَاتِ، وَرَجَّحَهُ صَاحِبُ الْبَحْرِ فَقَالَ: وَظَاهِرُ مَا فِي التَّحْرِيرِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ اسْتِفْتَاؤُهُ اتِّفَاقًا فَإِنَّهُ قَالَ: الِاتِّفَاقُ عَلَى حِلِّ اسْتِفْتَاءِ مَنْ عُرِفَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْعَدَالَةِ أَوْ رَآهُ مُنْتَصِبًا - وَالنَّاسُ يَسْتَفْتُونَهُ مُعَظِّمِينَ -، وَعَلَى امْتِنَاعِهِ إنْ ظَنَّ عَدَمَ أَحَدِهِمَا فَإِنْ جَهِلَ اجْتِهَادَهُ دُونَ عَدَالَتِهِ فَالْمُخْتَارُ مَنْعُ اسْتِفْتَائِهِ بِخِلَافِ الْمَجْهُولِ مِنْ غَيْرِهِ إذْ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْمَنْعِ، وَتَمَامُهُ فِيهِ، فَلْيُطَالَعْ.
وَيُكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ مِنْ الْمُفْتِي لَا مِنْ الْقَاضِي إذْ لَا بُدَّ لِلْقَضَاءِ مِنْ صِيغَةٍ مَخْصُوصَةٍ كَحَكَمْتُ، وَأَلْزَمْتُ، أَوْ صَحَّ عِنْدِي، أَوْ ثَبَتَ، أَوْ ظَهَرَ عِنْدِي، أَوْ عَلِمْتُ عَلَى الصَّحِيحِ.
(وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فَظًّا) مِنْ الْفَظَاظَةِ وَهِيَ خُشُونَةُ الْقَوْلِ (غَلِيظًا) أَيْ شَدِيدًا فِي الْكَلَامِ مُتَفَاحِشًا (جَبَّارًا) أَيْ مُتَكَبِّرًا مُقْبِلًا بِغَضَبٍ (عَنِيدًا) أَيْ مُخَالِفًا لِلْحَقِّ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ دَفْعُ الْفَسَادِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِعَيْنِهَا فَسَادٌ (وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ) الْقَاضِي (مَوْثُوقًا بِهِ) أَيْ مُعْتَمَدًا عَلَيْهِ (فِي دِينِهِ) بِالِاحْتِرَازِ عَنْ الْحَرَامِ (وَعَفَافِهِ) لِأَنَّهُ مَلَاكُ الدِّينِ (وَعَقْلِهِ) لِأَنَّهُ مَدَارُ التَّكْلِيفِ (وَصَلَاحِهِ) لِأَنَّ فِي ضِدِّهِ الْفَسَادَ (وَفَهْمِهِ) لِيَفْهَمَ الْفَسَادَ وَالْخُصُومَةَ (وَعِلْمِهِ بِالسُّنَّةِ) وَالْمُرَادُ بِالسُّنَّةِ مَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا وَفِعْلًا وَتَقْرِيرًا عِنْدَ أَمْرٍ يُعَايِنُهُ (وَالْآثَارِ) وَهِيَ مَا يُرْوَى عَنْ الْأَصْحَابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ (وَوُجُوهِ الْفِقْهِ) أَيْ طُرُقِهِ قَالَ الْمَوْلَى مِسْكِينٌ: إنَّ الْفِقْهَ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ اسْمٌ لِعِلْمٍ خَاصٍّ فِي الدِّينِ لَا لِكُلِّ عِلْمٍ وَهُوَ عِلْمٌ بِالْمَعَانِي الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا الْأَحْكَامُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ الرَّسُولِ، وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَمُقْتَضَيَاتِهَا، وَإِشَارَتِهَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ شَدِيدًا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ لَيِّنًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْرَفَ وَأَقْدَرَ وَأَوْجَبَ وَأَهْيَبَ وَأَصْبَرَ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ النَّاسِ كَانَ أَوْلَى.
وَيَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَتَفَحَّصَ فِي ذَلِكَ وَيُوَلِّيَ مَنْ هُوَ أَوْلَى لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَخَانَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ».
وَفِي الْأَشْبَاهِ «فَقَدْ ظَلَمَ مَرَّتَيْنِ بِإِعْطَاءِ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ وَمَنْعِ الْمُسْتَحِقِّ»، لَكِنْ فِي زَمَانِنَا تَوْجِيهُ الْقَضَاءِ إلَى الْمُسْتَحِقِّ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِقِلَّتِهِ أَوْ لِمَانِعٍ يَمْنَعُ حَتَّى اُبْتُلِيتُ بِأَنْ أُوَلِّيَ الْقَضَاءَ مِنْ قِبَلِ مَنْ لَهُ الْأَمْرُ فَلَمْ أَقْدِرْ أَنْ أُوَلِّيَ الْأَحَقَّ وَالْأَوْلَى، تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنِّي وَعَنْ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ بِحُرْمَةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ (وَكَذَا الْمُفْتِي) يَعْنِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ.
(وَالِاجْتِهَادُ شَرْطُ الْأَوْلَوِيَّةِ) فِي الْقَاضِي وَالْمُفْتِي، لَا الْجَوَازِ، هُوَ الصَّحِيحُ تَيْسِيرًا وَتَسْهِيلًا خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ.
وَفِي الْفَتْحِ وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْقَاضِي ذُكِرَ فِي الْمُفْتِي وَلَا يُفْتِي إلَّا الْمُجْتَهِدُ وَقَدْ اسْتَقَرَّ رَأْيُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ هُوَ الْمُجْتَهِدُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُجْتَهِدِ فَقِيلَ: أَنْ يَعْلَمَ الْكِتَابَ بِمَعَانِيهِ، وَالسُّنَّةَ بِطُرُقِهَا، وَالْمُرَادُ بِعِلْمِهِمَا عِلْمٌ بِهِ يَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ مِنْهُمَا مِنْ الْعَامِّ، وَالْخَاصِّ، وَالْمُشْتَرَكِ، وَالْمُؤَوَّلِ، وَالنَّصِّ، وَالظَّاهِرِ، وَالنَّاسِخِ، وَالْمَنْسُوخِ، وَمَعْرِفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَالْقِيَاسِ، وَلَا يُشْتَرَطُ حِفْظُهُ لِجَمِيعِ الْقُرْآنِ وَلَا لِبَعْضِهِ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ بَلْ أَنْ يَعْرِفَ مَظَانَّ أَحْكَامِهَا فِي أَبْوَابِهَا فَيُرَاجِعَهَا وَقْتَ الْحَاجَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّبَحُّرُ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ لُغَةً، وَإِعْرَابًا، وَأَمَّا الِاعْتِقَادُ فَيَكْفِيهِ اعْتِقَادٌ جَازِمٌ وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهَا عَلَى طَرِيقِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَدِلَّتِهِمْ لِأَنَّهَا صِنَاعَةٌ لَهُمْ وَيَدْخُلُ فِي السُّنَّةِ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا لِأَنَّهُ قَدْ يَقِيسُ مَعَ وُجُودِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ عُرْفِ النَّاسِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ قَرِيحَةٍ.
فَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ مِمَّنْ يَحْفَظُ أَقْوَالَ الْمُجْتَهِدِ فَلَيْسَ بِمُفْتٍ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَ الْمُجْتَهِدِ كَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى جِهَةِ الْحِكَايَةِ فَعُرِفَ أَنَّ مَا يَكُونُ فِي زَمَانِنَا مِنْ فَتْوَى الْمَوْجُودِينَ لَيْسَ بِفَتْوَى بَلْ هُوَ نَقْلُ كَلَامِ الْمُفْتِي لِيَأْخُذَ بِهِ الْمُسْتَفْتِي.
وَطَرِيقُ نَقْلِهِ لِذَلِكَ عَنْ الْمُجْتَهِدِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ سَنَدٌ فِيهِ، أَوْ يَأْخُذَهُ مِنْ كِتَابٍ مَعْرُوفٍ - تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي - نَحْوِ كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَنَحْوِهَا مِنْ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ لِلْمُجْتَهِدِينَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أَوْ الْمَشْهُورِ، وَتَمَامُهُ فِي الْبَحْرِ فَلْيُطَالَعْ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ أَنَّ اخْتِلَافَ أَئِمَّةِ الْهُدَى تَوْسِعَةٌ عَلَى النَّاسِ فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي جَانِبٍ وَهُمَا فِي جَانِبٍ خُيِّرَ الْمُفْتِي، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَعَ الْإِمَامِ أَخَذَ بِقَوْلِهِمَا إلَّا إذَا اصْطَلَحَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِ الْآخَرِ فَيَتْبَعُهُمْ كَمَا اخْتَارَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ قَوْلَ زُفَرَ فِي مَسَائِلَ.
وَصَحَّحَ فِي السِّرَاجِ أَنَّ الْمُفْتِيَ يُفْتِي بِقَوْلِ الْإِمَامِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، ثُمَّ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، ثُمَّ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ بِقَوْلِ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ وَلَا يُخَيَّرُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا، وَإِذَا اخْتَلَفَ يَتْبَعُ مُفْتِيَانِ قَوْلَ الْأَفْقَهِ.
وَفِي الْمِنَحِ، وَإِنْ خَالَفَ أَبَا حَنِيفَةَ صَاحِبَاهُ فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ اخْتِلَافَ عَصْرٍ وَزَمَانٍ كَالْقَضَاءِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ يَأْخُذُ بِقَوْلِ صَاحِبَيْهِ لِتَغَيُّرِ أَحْوَالِ النَّاسِ.
وَفِي الْمُزَارَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ وَنَحْوِهِمَا يَخْتَارُ قَوْلَهُمَا وَيَجُوزُ لِلشَّابِّ الْفَتْوَى إذَا كَانَ حَافِظًا لِلرِّوَايَاتِ وَاثِقًا عَلَى الدِّرَايَاتِ مُحَافِظًا عَلَى الطَّاعَاتِ مُجَانِبًا لِلشَّهَوَاتِ، وَالْعَالِمُ كَبِيرٌ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، وَالْجَاهِلُ صَغِيرٌ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا.
(فَيَصِحُّ تَقْلِيدُ الْجَاهِلِ) عِنْدَنَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقَضَاءِ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْعَمَلِ بِفَتْوَى غَيْرِهِ (وَيَخْتَارُ) الْمُقَلِّدُ (الْأَقْدَرَ وَالْأَوْلَى) لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْقَضَاءِ.
وَفِي الْإِصْلَاحِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَصِحُّ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ وَالْجَاهِلِ وَمَا قَالَهُ كَانَ أَحْوَطَ فِي زَمَانِهِ وَفِي زَمَانِنَا، الِاحْتِيَاطُ فِيمَا قُلْنَا لِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ سُدَّ بَابُ الْقَضَاءِ انْتَهَى.
(وَكُرِهَ التَّقَلُّدُ لِمَنْ خَافَ الْحَيْفَ وَالْعَجْزَ عَنْ الْقِيَامِ بِهِ) أَيْ كُرِهَ قَبُولُ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ لِخَوْفِ الْجَوْرِ أَوْ عَدَمِ إقَامَةِ الْعَدْلِ لِعَجْزِهِ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لِمَنْ خَافَ الْحَيْفَ أَوْ الْعَجْزَ لَكَانَ أَوْلَى لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَكْفِي كَمَا فِي الْبَحْرِ (وَلَا بَأْسَ بِهِ) أَيْ بِالتَّقَلُّدِ (لِمَنْ يَثِقُ مِنْ نَفْسِهِ بِأَدَاءِ فَرْضِهِ) لِأَنَّ كِبَارَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ تَقَلَّدُوهُ، وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ الدُّخُولُ مُطْلَقًا بِلَا إجْبَارٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ»، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْإِمَامَ دُعِيَ لِلْقَضَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَبَى حَتَّى حُبِسَ وَجُلِدَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ثَلَاثِينَ سَوْطًا حَتَّى قَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ: لَوْ تَقَلَّدْتَ لَنَفَعْتَ النَّاسَ، فَنَظَرَ إلَيْهِ شِبْهَ الْمُغْضَبِ، فَقَالَ: لَوْ أُمِرْتُ أَنْ أَقْطَعَ الْبَحْرَ سِبَاحَةً لَكُنْتُ أَقْدَرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْبَحْرُ عَمِيقٌ، وَالسَّفِينَةُ وَثِيقٌ، وَالْمَلَّاحُ عَالِمٌ، فَقَالَ الْإِمَامُ كَأَنِّي بِك قَاضِيًا وَذَكَرَ الْبَزَّازِيُّ فِي مَنَاقِبِهِ أَقْوَالًا حَاصِلُهَا أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَقْبَلْ الْقَضَاءَ، وَمَاتَ عَلَى الْإِبَاءِ، وَأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَحَسَّ بِمَوْتِهِ وَسَجَدَ فَخَرَجَتْ رُوحُهُ سَاجِدًا سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ وَزَادَ فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجِنَانِ فَتَوَّجَهُ وَمِنْ غَرِيبِ مَا وَقَعَ أَنَّهُ جِيءَ بِجِنَازَتِهِ فَازْدَحَمَ النَّاسُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى دَفْنِهِ إلَّا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَاسْتَمَرَّ النَّاسُ يُصَلُّونَ عَلَى قَبْرِهِ الشَّرِيفِ عِشْرُونَ، وَحُرِّرَ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ خَمْسُونَ أَلْفًا.
وَفِي الْهِدَايَةِ وَالْكَافِي: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الدُّخُولَ فِيهِ رُخْصَةٌ طَمَعًا فِي إقَامَةِ الْعَدْلِ بِحَدِيثِ عَدْلُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ وَالتَّرْكُ عَزِيمَةٌ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ وَرُبَّمَا يَظُنُّ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ، ثُمَّ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي الِانْتِهَاءِ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ إلَّا بِإِعَانَةِ غَيْرِهِ وَلَعَلَّ غَيْرَهُ لَا يُعِينُهُ.
(وَمَنْ تَعَيَّنَ لَهُ) أَيْ لِلْقَضَاءِ أَوْ تَعَيَّنَ الْقَضَاءُ لَهُ (فُرِضَ عَلَيْهِ) صِيَانَةً لِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَدَفْعًا لِظُلْمِ الظَّالِمِينَ.
وَفِي الْبَحْرِ أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ إنْ تَعَيَّنَ، وَفَرْضُ كِفَايَةٍ عِنْدَ وُجُودِ غَيْرِهِ، يَعْنِي إنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ قَوْمٌ صَالِحُونَ لَهُ فَامْتَنَعُوا عَنْهُ أَثِمُوا كُلُّهُمْ إنْ لَمْ يَقْدِرْ السُّلْطَانُ فَصْلَ الْقَضَايَا (وَلَا يَطْلُبُ الْقَضَاءَ وَلَا يَسْأَلُهُ) أَيْ مَنْ صَلَحَ لِلْقَضَاءِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْلُبَ بِقَلْبِهِ وَلَا يَسْأَلَهُ بِلِسَانِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ «مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ نَزَلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ» أَيْ يُلْهِمُهُ الرُّشْدَ وَيُوَفِّقُهُ لِلصَّوَابِ وَكَذَا لَا يَسْأَلُهُ الْإِمَارَةَ.
(وَيَجُوزُ تَقَلُّدُهُ مِنْ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ) أَيْ الظَّالِمِ لِأَنَّ عُلَمَاءَ السَّلَفِ تَقَلَّدُوا الْقَضَاءَ مِنْ الْحَجَّاجِ مَعَ أَنَّهُ أَظْلَمُ زَمَانِهِ (وَمِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ) وَهُمْ الَّذِينَ خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ تَقَلَّدُوهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ فِي نَوْبَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَكَانَ الْحَقُّ بِيَدِ عَلِيٍّ وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْهُ: إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا، قَالَ أَبُو اللَّيْثِ الْمُتَغَلِّبُ إذَا وَلَّى رَجُلًا قَضَاءَ بَلْدَةٍ وَقَضَى ذَلِكَ الْقَاضِي فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَإِنْ وَافَقَ رَأْيَهُ أَمْضَاهُ، وَإِنْ خَالَفَ أَبْطَلَهُ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ حُكْمِ الْمُحَكَّمِ.
وَفِي الْعِمَادِيَّةِ التَّقَلُّدُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ يَصِحُّ وَبِمُجَرَّدِ اسْتِيلَاءِ الْبَاغِي لَا يَنْعَزِلُ قُضَاةُ الْعَدْلِ، وَيَصِحُّ عَزْلُ الْبَاغِي لَهُمْ حَتَّى لَوْ انْهَزَمَ الْبَاغِي بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَنْفُذُ قَضَايَاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَمْ يُقَلِّدْهُمْ سُلْطَانُ الْعَدْلِ ثَانِيًا لِأَنَّ الْبَاغِيَ صَارَ سُلْطَانًا بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ (إلَّا إذَا كَانَ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ الْجَائِرِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ، أَيْ يَجُوزُ تَقَلُّدُهُ إلَّا إذَا لَمْ يُمَكِّنْهُ الْجَائِرُ وَأَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِالتَّقَلُّدِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يُمَكِّنُهُ.
(وَإِذَا تَقَلَّدَ) أَحَدٌ الْقَضَاءَ بَعْدَ عَزْلِ الْآخَرِ (يَسْأَلُ دِيوَانَ قَاضٍ قَبْلَهُ وَهُوَ الْخَرَائِطُ الَّتِي فِيهَا السِّجِلَّاتُ وَالْمَحَاضِرُ وَغَيْرُهَا) مِنْ الصُّكُوكِ وَكِتَابِ نَصْبِ الْأَوْلِيَاءِ وَتَقْدِيرِ النَّفَقَاتِ، لِأَنَّ الدِّيوَانَ وُضِعَ لِيَكُونَ حُجَّةً عِنْدَ الْحَاجَةِ فَيُجْعَلُ فِي يَدِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَكْتُبُ نُسْخَتَيْنِ إحْدَاهُمَا فِي يَدِ الْخَصْمِ وَالْأُخَرَ فِي دِيوَانِ الْقَاضِي، إذْ رُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي وَمَا فِي يَدِ الْخَصْمِ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَإِنْ كَانَ الْوَرَقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَا إشْكَالَ فِي وَضْعِهِ فِي يَدِ الْقَاضِي الْجَدِيدِ وَكَذَا مِنْ مَالِ الْخُصُومِ أَوْ مِنْ مَالِ الْقَاضِي فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ اُتُّخِذَتْ تَدَيُّنًا لَا تَمَوُّلًا (وَيَبْعَثُ) الْقَاضِي الْجَدِيدُ (أَمِينَيْنِ) مِنْ ثِقَاتِهِ وَهُوَ أَحْوَطُ وَالْوَاحِدُ يَكْفِي (يَقْبِضَانِهَا) أَيْ الْخَرَائِطَ (بِحَضْرَةِ الْمَعْزُولِ أَوْ أَمِينِهِ، وَيَسْأَلَانِهِ) أَيْ الْمَعْزُولَ (شَيْئًا فَشَيْئًا) لِلْكَشْفِ لَا لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْغَيْرِ (وَيَجْعَلَانِ كُلَّ نَوْعٍ فِي خَرِيطَةٍ عَلَى حِدَةٍ) فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ نُسَخِ السِّجِلَّاتِ يَجْمَعَانِ فِي خَرِيطَةٍ وَمَا كَانَ مِنْ نَصِيبِ الْأَوْصِيَاءِ يَجْمَعَانِ فِي خَرِيطَةٍ وَمَا كَانَ مِنْ نُسَخِ الْأَوْقَافِ يَجْمَعَانِ فِي خَرِيطَةٍ وَمَا كَانَ مِنْ الصُّكُوكِ يَجْمَعَانِ فِي خَرِيطَةٍ لِيَكُونَ أَسْهَلَ لِلتَّنَاوُلِ (وَيَنْظُرُ) الْقَاضِي الْجَدِيدُ (فِي حَالِ الْمَحْبُوسِينَ) لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا لِلْمُسْلِمِينَ - وَالْمُرَادُ الْمَحْبُوسُ فِي سِجْنِ الْقَاضِي - فَيَبْعَثُ الْقَاضِي ثِقَةً يُحْصِيهِمْ فِي السِّجْنِ وَيَكْتُبُ أَسْمَاءَهُمْ وَأَخْبَارَهُمْ وَسَبَبَ حَبْسِهِمْ وَمَنْ حَبَسَهُمْ (فَمَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بِهِ) أَيْ بِالْحَقِّ (بَيِّنَةٌ أَلْزَمَهُ) لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حُجَّةٌ مُلْزِمَةٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَلْزَمَهُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَلْزَمَهُ الْحَبْسَ أَيْ أَدَامَ حَبْسَهُ، وَتَمَامُهُ فِي الْبَحْرِ، فَلْيُطَالَعْ.
(وَلَا يَعْمَلُ بِقَوْلِ الْمَعْزُولِ) فَلَوْ قَالَ: حَبَسْتُهُ بِحَقٍّ عَلَيْهِ لَا يَقْبَلُ قَوْلَهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ كُنْتُ حَكَمْتُ عَلَيْهِ لِفُلَانٍ بِكَذَا وَعَلَّلَهُ فِي الدُّرَرِ بِأَنَّهُ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا، وَشَهَادَةُ الْوَاحِدِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ خُصُوصًا إذَا كَانَتْ بِفِعْلِ نَفْسِهِ (وَإِلَّا يُنَادِي عَلَيْهِ) أَيَّامًا فَإِنْ حَضَرَ أَحَدٌ وَادَّعَى - وَهُوَ عَلَى إنْكَارِهِ - ابْتَدَأَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا، وَإِلَّا تَأَنَّى فِي ذَلِكَ أَيَّامًا عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْقَاضِي (ثُمَّ يُخَلِّي سَبِيلَهُ) أَيْ إنْ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ بَعْدَ النِّدَاءِ لَكِنْ (بَعْدَمَا اسْتَظْهَرَ فِي أَمْرِهِ) وَفِي الِاخْتِيَارِ: وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ لَا يُخَلِّيهِ حَتَّى يَسْتَظْهِرَ فِي أَمْرِهِ فَيَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ عَلَى الصَّحِيحِ اتِّفَاقًا، فَإِنْ قَالَ لَا كَفِيلَ لِي فَيُنَادِي شَهْرًا فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ أَطْلَقَهُ (وَيَعْمَلُ) أَيْ يَعْمَلُ الْقَاضِي الْجَدِيدُ (فِي الْوَدَائِعِ وَغَلَّاتِ الْوَقْفِ) الَّتِي وَضَعَهَا الْمَعْزُولُ فِي أَيْدِي الْأُمَنَاءِ (بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ ذِي الْيَدِ) لِأَنَّ إقْرَارَ غَيْرِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ.
قَيَّدَ بِغَلَّاتِ الْوَقْفِ لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِإِقْرَارِ ذِي الْيَدِ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ إذَا جَحَدَهُ الْوَارِثُ وَلَا بَيِّنَةَ، وَلَوْ قَالَ الْمَعْزُولُ: إنَّ هَذَا وَقْفُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ سَلَّمْتُهُ إلَى هَذَا وَأَقَرَّ ذُو الْيَدِ وَكَذَّبَهُ الْوَارِثُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْقَاضِي وَذِي الْيَدِ إنْ لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ كَمَا فِي الْبَحْرِ (لَا بِقَوْلِ الْمَعْزُولِ إلَّا إذَا أَقَرَّ ذُو الْيَدِ بِالتَّسْلِيمِ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْمَعْزُولِ بِإِقْرَارِهِ، ثَبَتَ أَنَّ الْيَدَ كَانَ لِلْمَعْزُولِ سَابِقًا فَصَحَّ إقْرَارُ الْمَعْزُولِ كَأَنَّهُ فِي يَدِهِ حَالًّا، لِأَنَّ مَنْ كَانَ بِيَدِهِ حَقِيقَةً يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فَكَذَا إذَا كَانَ فِي يَدِ مُودَعِهِ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِ الْمُودِعِ إلَّا إذَا بَدَأَ صَاحِبُ الْيَدِ بِالْإِقْرَارِ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ أَقَرَّ بِتَسْلِيمِ الْقَاضِي إلَيْهِ، وَالْقَاضِي يُقِرُّ بِهِ لِغَيْرِهِ فَيُسَلَّمُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ وَيَضْمَنُ الْمُقِرُّ قِيمَتَهُ لِلْقَاضِي بِالْإِقْرَارِ، وَجَعَلَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَغَيْرُهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ فَلْيُرَاجَعْ.
(وَيَجْلِسُ) الْقَاضِي (لِلْحُكْمِ جُلُوسًا ظَاهِرًا فِي الْمَسْجِدِ) بِهَيْئَةٍ يَعْلَمُ النَّاسُ أَنَّهُ جَلَسَ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ لَا لِعِبَادَةٍ أُخْرَى لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَلَسَ فِيهِ لِلْحُكْمِ وَقَالَ إنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْحُكْمِ الْحَدِيثَ فَسَوَّى بَيْنَهُمَا فَكَانَ الْقَضَاءُ عِبَادَةً فَلَا مَنْعَ لِحُضُورِ الْمُشْرِكِ فِيهِ لِأَنَّ نَجَاسَتَهُ فِي اعْتِقَادِهِ لَا فِي ظَاهِرِهِ، وَالْحَائِضُ تُمْنَعُ عَنْ الدُّخُولِ لَكِنْ تُقْطَعُ خُصُومَتُهَا فِي بَابِ الْمَسْجِدِ (وَالْجَامِعُ أَوْلَى) مِنْ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ غَيْرُ خَفِيٍّ عَلَى الْغُرَبَاءِ وَغَيْرِهِمْ، هَذَا إذَا كَانَ الْجَامِعُ وَسَطَ الْبَلَدِ، وَإِلَّا فَيَخْتَارُ الْوَسَطَ مِنْهُمَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ الْجُلُوسُ لِلْقَضَاءِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ يَحْضُرُهُ الْمُشْرِكُ وَهُوَ نَجَسٌ.
(وَلَوْ جَلَسَ فِي دَارِهِ وَأَذِنَ) لِلنَّاسِ (فِي الدُّخُولِ) فِيهَا إذْنًا عَامًّا وَلَا يَمْنَعُ أَحَدًا لِأَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ حَقًّا فِي مَجْلِسِهِ (فَلَا بَأْسَ بِهِ) لِأَنَّ الْحُكْمَ عِبَادَةٌ فَلَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الدَّارُ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ، وَيُجْلِسُ مَعَهُ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ وَلَا يَجْلِسُ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ يُورِثُ التُّهْمَةَ، وَتُبْعِدُ عَنْهُ الْأَعْوَانَ لِأَنَّهُ أَهْيَبُ وَلَا يَحْكُمُ وَهُوَ مَاشٍ أَوْ قَائِمٌ أَوْ مَشْغُولٌ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَتُجُوِّزَ أَنْ يَحْكُمَ وَهُوَ مُتَّكِئٌ، وَلَكِنَّ الْقَضَاءَ مُسْتَوِيَ الْجُلُوسِ أَفْضَلُ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الْقَضَاءِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقْعِدَ مَعَهُ أَهْلَ الْعِلْمِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِأَحْوَالِ الْقَضَاءِ لَكِنْ لَا يُشَاوِرُهُ عِنْدَ الْخُصُومِ بَلْ يُخْرِجُهُمْ أَوْ يُبْعِدُهُمْ، ثُمَّ يُشَاوِرُهُ.
وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَعْتَذِرَ لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ وَيُبَيِّنَ لَهُ وَجْهَ قَضَائِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْفَعَ لِشِكَايَتِهِ لِلنَّاسِ وَنِسْبَتِهِ إلَى أَنَّهُ جَارَ عَلَيْهِ، وَمَنْ يَسْمَعْ يُخِلَّ فَرُبَّمَا تُفْسِدُ الْعَامَّةُ عِرْضَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ، وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنَّهُ إذَا اخْتَصَمَ إلَيْهِ إخْوَانٌ أَوْ بَنُو الْأَعْمَامِ أَنْ لَا يُعَجِّلَ بِالْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ فَيُدَافِعَهُمْ قَلِيلًا كَيْ يَصْطَلِحُوا لِأَنَّ الْقَضَاءَ، وَلَوْ بِحَقٍّ رُبَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْعَدَاوَةِ.
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ قَضَى الْقَاضِي بِحَقٍّ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ الْقَضِيَّةَ ثَانِيًا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا يُفْرَضُ ذَلِكَ عَلَى الْقَاضِي.
(وَلَا يَقْبَلُ) الْقَاضِي (هَدِيَّةً) وَلَوْ قَلِيلَةً لِأَنَّ قَبُولَهَا يُؤَدِّي إلَى مُرَاعَاةِ الْمُهْدِي فَإِنْ كَانَ الْمُهْدِي يَتَأَذَّى بِالرَّدِّ يَقْبَلُهَا وَيُعْطِيهِ مِثْلَ قِيمَتِهَا كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ (إلَّا) أَيْ لَهُ أَنْ لَا يَرُدَّهَا (مِنْ قَرِيبِهِ) وَهُوَ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ لِأَنَّ فِي رَدِّهَا عَلَيْهِمْ قَطْعِيَّةَ رَحِمٍ وَهِيَ حَرَامٌ (أَوْ مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِمُهَادَاتِهِ) قَبْلَ الْقَضَاءِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ (إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا) أَيْ لِلْقَرِيبِ أَوْ مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِمُهَادَاتِهِ (خُصُومَةٌ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى الْعَادَةِ) حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُمَا خُصُومَةٌ أَوْ زَادَتْ عَلَى الْعَادَةِ يَرُدُّهَا كُلَّهَا فِي الْأَوَّلِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا فِي الثَّانِي، وَقَيَّدَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَالُ الْمُهْدِي قَدْ زَادَ فَبِقَدْرِ مَا زَادَ مَالُهُ لَا بَأْسَ بِقَبُولِهِ.
وَفِي الْبَحْرِ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْبَلَهَا مِنْ السُّلْطَانِ وَمِنْ حَاكِمِ بَلَدِهِ وَاقْتَصَرَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة عَلَى مَنْ وَلَّاهُ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ: وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ وَالْمُفْتِي قَبُولُ الْهَدِيَّةِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ الْخَاصَّةِ (وَيَحْضُرُ الدَّعْوَةَ الْعَامَّةَ) لِعَدَمِ كَوْنِهَا لِلْقَضَاءِ إلَّا إذَا كَانَ صَاحِبُ الْعَامَّةِ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ (لَا الْخَاصَّةَ) لِأَنَّهَا جُعِلَتْ لِأَجْلِهِ وَلَمْ يُفَصِّلْ فِي الْخَاصَّةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْقَرِيبِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ مَا إذَا جَرَتْ لَهُ عَادَةٌ بِهَا أَوْ لَمْ تَجْرِ.
وَفِي الْكَافِي: وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْقَاضِي وَبَيْنَ الْمُضَيِّفِ قَرَابَةٌ يُجِيبُهُ بِلَا خِلَافٍ كَذَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا يُجِيبُ الدَّعْوَةَ الْخَاصَّةَ لِلْقَرِيبِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يُجِيبُ (وَهِيَ) الدَّعْوَةُ الْخَاصَّةُ (مَا لَا يُتَّخَذُ إنْ لَمْ يَحْضُرْ) الْقَاضِي فَإِنْ عَلِمَ الْمُضَيِّفُ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا لَمْ يَحْضُرْهَا لَا يَتْرُكُهَا فَعَامَّةٌ، وَقِيلَ: إنْ جَاوَزَ الْعَشَرَةَ فَعَامَّةٌ، وَإِلَّا فَخَاصَّةٌ، وَقِيلَ:
دَعْوَةُ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ عَامَّةٌ وَمَا سِوَاهُمَا خَاصَّةٌ (وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ وَيَعُودُ الْمَرِيضَ) لِأَنَّ هَذَا مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَفِي الْحَدِيثِ «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ حُقُوقٍ إذَا دَعَاهُ يُجِيبُهُ، وَإِذَا مَرِضَ يَعُودُهُ، وَإِذَا مَاتَ يَحْضُرُهُ، وَإِذَا لَقِيَهُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَهُ يَنْصَحُهُ، وَإِذَا عَطَسَ يُشَمِّتُهُ» وَهُوَ لَا يَسْقُطُ بِالْقَضَاءِ لَكِنْ لَا يَمْكُثُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنِ الْمَرِيضُ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدَهُمَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَعُودَ.
(وَيَتَّخِذُ مُتَرْجِمًا وَكَاتِبًا عَدْلًا) لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ وَيَجْلِسُ نَاحِيَةً عَنْ الْقَاضِي حَيْثُ يَرَاهُ حَتَّى لَا يُخْدَعُ بِالرِّشْوَةِ (وَيُسَوِّي) الْقَاضِي (بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ جُلُوسًا) أَيْ مِنْ حَيْثُ الْجُلُوسُ بَيْنَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُتَرَبِّعَيْنِ وَلَا مُقْعِيَيْنِ وَلَا مُحْتَبِيَيْنِ وَيَكُونُ بَيْنَ الْقَاضِي وَبَيْنَهُمَا قَدْرُ ذِرَاعَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْفَعَا أَصْوَاتَهُمَا، وَتَقِفُ أَعْوَانُ الْقَاضِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَمْنَعُونَ النَّاسَ عَنْ التَّقَدُّمِ، أَطْلَقَ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فَشَمِلَ السُّلْطَانَ وَالشَّرِيفَ وَالْوَضِيعَ وَالْأَبَ وَالِابْنَ وَالصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالذِّمِّيَّ وَالْعَبْدَ وَالْحُرَّ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا بَيْنَ يَدَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ أَجْلَسَهُمَا فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إلَى الْقَاضِي فَتَفُوتُ التَّسْوِيَةُ، وَكَذَا لَوْ أَجْلَسَ أَحَدَهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ لِأَنَّ جَانِبَ الْيَمِينِ أَفْضَلُ.
وَفِي الْبَحْرِ نَقْلًا عَنْ الْفَتَاوَى الْكُبْرَى خَاصَمَ السُّلْطَانُ مَعَ رَجُلٍ فَجَلَسَ السُّلْطَانُ مَعَ الْقَاضِي فِي مَجْلِسِهِ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُومَ مِنْ مَقَامِهِ، وَيُجْلِسَ خَصْمَ السُّلْطَانِ فِيهِ، وَيَقْعُدَ هُوَ عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ يَقْضِيَ بَيْنَهُمَا، انْتَهَى.
وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَقْتَ مَوْتِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي لَا أَمِيلُ إلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ حَتَّى بِالْقَلْبِ إلَّا فِي خُصُومَةِ النَّصْرَانِيِّ مَعَ الرَّشِيدِ وَلَمْ أُسَوِّ بَيْنَهُمَا وَقَضَيْتُ عَلَى الرَّشِيدِ، ثُمَّ بَكَى (وَإِقْبَالًا وَنَظَرًا) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إذَا اُبْتُلِيَ أَحَدُكُمْ بِالْقَضَاءِ فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي الْجُلُوسِ وَالنَّظَرِ وَالْإِشَارَةِ وَلَا يَرْفَعْ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ»، وَلِأَنَّ فِي عَدَمِ التَّسْوِيَةِ كَسْرَ قَلْبِ الْآخَرِ (وَلَا يُسَارُّ أَحَدَهُمَا وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ) أَيْ لَا يُكَلِّمُ الْقَاضِي أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ سِرًّا وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ بِيَدِهِ وَلَا بِرَأْسِهِ وَلَا بِعَيْنِهِ وَلَا بِحَاجِبَيْهِ (وَلَا يُضِيفُهُ) أَيْ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ (دُونَ الْآخَرِ) وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ أَضَافَهُمَا مَعًا فَلَا بَأْسَ بِهِ (وَلَا يَضْحَكُ إلَيْهِ) أَيْ إلَى أَحَدِهِمَا (وَلَا يَمْزَحُ مَعَهُ) أَيْ مَعَ أَحَدِهِمَا وَلَا يَتَلَطَّفُ بِهِ (وَلَا يُلَقِّنُهُ حُجَّتَهُ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا تُهْمَةٌ وَعَلَيْهِ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا وَلِأَنَّ فِيهِ كَسْرَ الْقَلْبِ لِلْآخَرِ.
(وَيُكْرَهُ تَلْقِينُهُ) أَيْ تَلْقِينُ الْقَاضِي (الشَّاهِدَ بِقَوْلِهِ أَتَشْهَدُ بِكَذَا) لِأَنَّ الشَّاهِدَ يَسْتَفِيدُ مِنْ قَوْلِ الْقَاضِي زِيَادَةَ عِلْمٍ فَتُوجَدُ إعَانَتُهُ وَهِيَ تُهْمَةٌ (وَاسْتَحْسَنَهُ) أَيْ التَّلْقِينَ (أَبُو يُوسُفَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ) لِأَنَّهُ قَدْ يَقُولُ أَعْلَمُ مَكَانَ أَشْهَدُ لِمَهَابَةِ الْمَجْلِسِ، وَهُوَ نَوْعُ رُخْصَةٍ عِنْدَهُ رَجَعَ إلَيْهِ بَعْدَمَا تَوَلَّى الْقَضَاءَ، وَالْعَزِيمَةُ فِيمَا قَالَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ تُهْمَةٍ.
وَفِي الْفَتْحِ: وَظَاهِرُ الْجَوَابِ تَرْجِيحُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَفِي الْقُنْيَةِ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَضَاءِ لِزِيَادَةِ تَجْرِبَتِهِ، وَأَمَّا إفْتَاءُ الْقَاضِي فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ لَكِنْ لَا يُفْتِي أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ.
قَيَّدَ بِالشَّاهِدِ: الْبَيَانُ أَنَّهُ لَا يُلَقِّنُ الْمُدَّعِيَ بِالْأَوْلَى وَفِي الْخَانِيَّةِ فَإِنْ أَمَرَ الْقَاضِي رَجُلَيْنِ لِيُعْلِمَاهُ الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةَ فَلَا بَأْسَ بِهِ خُصُوصًا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.
(وَلَا يَبِيعُ) الْقَاضِي (وَلَا يَشْتَرِي فِي مَجْلِسِهِ) أَيْ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَأَطْلَقَهُ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ: وَلَا فِي غَيْرِهِ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَسَاهَلُونَ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ، هَذَا إذَا كَانَ يُكْفَى الْمَئُونَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ يُعَامِلُ مَنْ بِجَانِبِهِ، وَإِلَّا لَا يُكْرَهُ وَلَوْ بَاعَ مَالَ الْمَدْيُونِ أَوْ الْمَيِّتِ لَا يُكْرَهُ (وَلَا يُمَازِحُ) لِإِذْهَابِهِ هَيْبَةَ الْقَضَاءِ (فَإِنْ عَرَضَ لَهُ) أَيْ لِلْقَاضِي (هَمٌّ أَوْ نُعَاسٌ أَوْ غَضَبٌ أَوْ جُوعٌ أَوْ عَطَشٌ أَوْ حَاجَةٌ) بِشَرْبَةٍ (كَفَّ عَنْ الْقَضَاءِ) قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ».
وَفِي رِوَايَةٍ «وَهُوَ شَبْعَانُ» وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى التَّفَكُّرِ، وَهَذِهِ الْأَعْرَاضُ تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّفَكُّرِ فَلَا يُؤْمَنُ عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْخَطَأِ وَيُكْرَهُ لَهُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ يَوْمَ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ الْجُوعِ، وَلَا يُتْعِبُ نَفْسَهُ بِطُولِ الْجُلُوسِ وَيَقْعُدُ طَرَفَيْ النَّهَارِ، وَإِذَا طَمِعَ فِي إرْضَاءِ الْخُصُومِ رَدَّهُمَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ أَنْفَذَ الْقَضَاءَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ تَأْخِيرَهُ بَعْدَمَا ثَبَتَ ظُلْمٌ.
وَفِي التَّبْيِينِ وَغَيْرِهِ الْقَضَاءُ وَاجِبٌ عَلَى الْقَاضِي بَعْدَ ظُهُورِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ يَأْثَمُ وَيَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ، وَيُعَزَّرُ وَيُكَفَّرُ إنْ لَمْ يَعْتَقِدْ افْتِرَاضَ الْقَضَاءِ بَعْدَ تَوَفُّرِ شَرَائِطِهِ.
(، وَإِذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ الْخَصْمَانِ فَإِنْ شَاءَ قَالَ لَهُمَا) أَيْ لِلْخَصْمَيْنِ (مَا لَكُمَا، وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ) وَالسُّكُوتُ أَحْسَنُ كَيْ لَا يَكُونَ تَهْيِيجًا لِلْخُصُومَةِ وَقَدْ قَعَدَ لِقَطْعِهَا (وَإِذَا تَكَلَّمَ أَحَدُهُمَا أَسْكَتَ الْآخَرَ) لِأَنَّهُمَا إذَا تَكَلَّمَا جُمْلَةً لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفَهْمِ.